لقد توغل الذكاء الاصطناعي (AI) بهدوء في نسيج حياتنا اليومية، متجاوزًا المصانع والمختبرات ليصل إلى شاشات هواتفنا. بالنسبة لـ جيل الألفية الجديدة (Gen Z)—الذين وُلدوا في عصر رقمي بالكامل—لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة، بل أصبح مشاركًا أساسيًا في إنتاج المحتوى الذي يستهلكونه ويشاركونه. من فلاتر التجميل الواقعية للغاية التي تعيد تشكيل ملامح الوجه، إلى النصوص والموسيقى والصور التي تُنشأ بنقرة زر، فإن المحتوى المُولَّد بالذكاء الاصطناعي (AI-Generated Content - AIGC) يُنشئ بيئة رقمية جديدة ذات عواقب نفسية واجتماعية غير متوقعة. هذه المقالة تتعمق في الكواليس لترصد التأثيرات العميقة لهذا المحتوى على هوية وسلامة هذا الجيل.
1. تآكل الإبداع الأصيل والجهد الفكري
يُروَّج للذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير الإبداع من القيود التقنية، لكنه يحمل في طياته خطرًا خفيًا يتمثل في تآكل الإبداع الأصيل. عندما يصبح توليد الأفكار، وصياغة النصوص، ورسم الصور معتمدًا بشكل كبير على الخوارزميات، قد يفقد جيل الشباب الدافع اللازم للغوص في عمق عملية التفكير النقدي والجهد الفكري المطلوب للإبداع البشري الحقيقي.
الكتابة والإنتاج: بدلاً من قضاء الوقت في البحث والتفكير وصقل الأسلوب الشخصي، يصبح الأمر مجرد إدخال "مطالبة" (prompt) للحصول على نتيجة فورية. هذا الاستسهال يقلل من قيمة رحلة التعلم والصراع الفكري التي هي أساس تطوير مهارات الكتابة والتعبير.
فن النسخ المتطابق (The Copy-Paste Art): في مجال الفنون البصرية، عندما يتمكن أي شخص من إنشاء "عمل فني" معقد بصريًا دون تعلم تقنيات الرسم أو التصميم، تتضاءل قيمة المهارة البشرية الفريدة. قد يؤدي ذلك إلى شعور عام بأن "أي شيء يمكن إنشاؤه"، مما يقلل من احترام الإبداع الناتج عن الجهد والتعلم.
2. تشويه الإدراك للواقع ومفهوم الذات
لعل التأثير الأكثر وضوحًا وقلقًا هو طريقة AIGC في تشويه خطوط التمييز بين الواقع والرقمي. هذا التأثير يظهر بحدة في أدوات تعديل الصور والفيديوهات (فلاتر التجميل الواقعية وتقنية التزييف العميق "Deepfake").
الجمال المُصطنع: فلاتر الذكاء الاصطناعي التي تنشئ وجوهًا "مثالية" باتت هي المعيار على منصات مثل تيك توك وإنستجرام. هذا الأمر يؤدي إلى ظهور نوع جديد من "عسر التشوه الجسدي الرقمي" (Digital Dysmorphia)، حيث يصبح الشباب غير راضين عن مظهرهم الحقيقي، بل ويشعرون بالاستياء من صورة أجسادهم التي لا تتطابق مع النسخة المثالية التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي. هذا السعي اللانهائي للكمال المبرمج يعزز معايير جمالية مستحيلة.
الثقة المفقودة: يُضعف الانتشار الواسع لـ "التزييف العميق" (Deepfakes) الثقة العامة في المحتوى البصري والسمعي. بالنسبة لجيل يعتمد على الإنترنت كمصدر أساسي للمعلومات، فإن صعوبة التمييز بين الحقيقة والتلاعب تؤدي إلى حالة من القلق المعرفي والشك المستمر في كل ما يُشاهد ويُقرأ، مما يزيد من صعوبة تكوين وجهات نظر راسخة.
3. صعود "الهوية الرقمية الاصطناعية"
مع تحول التفاعلات الاجتماعية إلى العالم الرقمي، أصبح جيل الألفية الجديدة يواجه تحدي بناء هويته في مساحة تتشابك فيها العناصر الحقيقية مع العناصر المُولَّدة بالذكاء الاصطناعي.
الـ "أنا" المُحسّنة (The Augmented Self): لم يعد بناء الهوية الرقمية يقتصر على اختيار أفضل صورك الحقيقية، بل أصبح يتعلق بإنشاء "شخصية رقمية" مُحسّنة بالذكاء الاصطناعي، سواء كانت أفاتار مثاليًا أو سيرة ذاتية مُنمَّقة آليًا. هذا يدفع الشباب إلى بناء "هوية رقمية اصطناعية" تختلف جوهريًا عن هويتهم الحقيقية، مما يؤدي إلى الشعور بـ التنافر والوحدة العاطفية عند العودة إلى الحياة الواقعية.
التفاعلات الآلية: حتى التفاعلات الاجتماعية بدأت تتأثر، حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة الرسائل أو الردود المثالية أو حتى لخلق "أصدقاء افتراضيين" (AI Companions). هذا يهدد بتجريد التفاعلات البشرية من العفوية والهشاشة العاطفية التي هي جوهر العلاقات الحقيقية، مما يعزز مهارات التواصل الاصطناعية على حساب المهارات الاجتماعية الواقعية.
الخاتمة: الموازنة بين الأداة والهوية
إن المحتوى الذي يُنشئه الذكاء الاصطناعي ليس شرًا بحد ذاته؛ فمن الناحية العملية، هو أداة قوية. لكن التحدي يكمن في كيفية تعامل جيل الألفية الجديدة معه. لاستعادة التوازن، يجب على المجتمع والمعلمين والآباء التركيز على:
الوعي الإعلامي والتحقق: تعليم الشباب كيفية التمييز النقدي بين المحتوى البشري والأصلي والمحتوى المُولَّد بالذكاء الاصطناعي، وتعزيز مهارات التحقق من المصدر (Fact-Checking).
تمجيد الجهد البشري: الترويج للقيمة الكامنة في الجهد، والإبداع الأصيل، وعملية التجربة والخطأ بدلاً من النتائج الفورية.
ترسيخ الهوية الواقعية: تشجيع التفاعلات الاجتماعية غير الرقمية، والنشاطات التي تتطلب مهارات يدوية أو جسدية، لترسيخ الشعور بالذات في العالم المادي.
ما وراء الشاشة، يكمن جيل يحاول أن يجد موطئ قدم في عالم أصبح فيه الوهم الواقعي هو القاعدة الجديدة. إن فهم التأثير العقلي والاجتماعي للمحتوى الذي يُنشئه الذكاء الاصطناعي هو الخطوة الأولى لحماية الهوية الإنسانية الأصيلة لهذا الجيل.